مرحبا بكم. تابعونا على السوشيال ميديا

قصة: العنوان مازال في جيبي

هناك نوعية من الأفكار المزعجة لا تلازمنا طوال الوقت بل تقبع بخبث في ركن مظلم من العقل ودائما تنتظر الفرصة لتطفو على السطح وتؤرقنا. قد تكون ذكرى مؤلمة لفراق أو ندم على سوء تصرف في موقف ما. هذا الصباح ليس كأي صباح فهو بداية يوم أقضي فيه على إحدى هذه الأفكار وأصفي حسابي معها ليقل عدد ما أحمله من أثقال واحدا.

قبل أربعة أعوام ذهبت في نزهة منظمة بالدراجات للتجول في المناطق الريفية القريبة من المدينة. لا يعرف الكثيرون عن هذه الرحلات حتى من أهل المدينة أنفسهم ولكنني معروف بمهارتي في البحث والترتيب للأنشطة قبل الرحلات وهو ما جعلني بمثابة مستشار بين المعارف والأصدقاء في أمور السياحة والسفر وجعلني أتساءل أحيانا إذا كانت المتعة الإضافية التي أحصل عليها تساوي ما أبذله من وقت طويل في الدراسة والتحضير. إخترت رحلة هادئة لغير المحترفين هدفها التنزه وكالمتوقع غالبية المشتركين كانوا من كبار السن. قادنا المرشد من قرية لأخرى بين بيوت ومزارع منسقة بدقة متناهية متوقفا أحيانا ليشرح الأهمية التاريخية لقصر أو كنيسة بلغة ألمانية لا أفهم منها أكثر من بعض حروف الجر. تعرفت في إحدي الوقفات على عادة ألمانية جديدة وهي تقسيم مناطق زراعية على أطراف المدن إلى قطع من الأراضي الصغيرة لا تزيد مساحة الواحدة عن مائة متر أو أكثر قليلا وتخصص كحدائق يمتلكها أهل المدن. يزرعون فيها الخضروات ويلوذون بها للراحة من صخب المدينة. تجد في كل قطعة ارض منزل خشبي صغير أقرب إلى الكابينة أو الكوخ. ويفصل بين صفوف هذه الأراضي طرقات صغيرة لا تسع إلا المشاة أو الدراجات. ومع الأزهار المنسقة والنباتات المشذبة تبدو هذه النسخ المصغرة من الأراضي والبيوت وكأنها مشهد من قصة خيالية للأطفال.

توقفنا في مطعم صغير لبعض الراحة. وأخيرا وجدت أحدا أتحدث معه بالإنجليزية لكسر الشعور بعدم الفهم. رجل سبعيني متقاعد مع زوجته يواظبون على هذه الرحلات من أجل الحفاظ على لياقتهم البدنية. في بلادي لا تنتشر رحلات الدراجات للتنزه بين القرى وإن وجدت لا أتوقع أن أرى فيها زوجين في عمر السبعين. تجاذبنا أطراف الحديث مع بعض القهوة متوسطة الجودة وقطع من الحلوى أفضل منها. حين عرف صديقي الجديد أنني من مصر حكي لي عن مغامرة قام بها في شبابه لعبور أفريقيا كاملة بالسيارة مع صديق له. بدأت الرحلة من ألمانيا إلى إيطاليا ومن هناك عبروا المتوسط إلى تونس ثم اتجهوا شرقا عبر ليبيا إلى مصر. وكان مخططهم أن يتجهوا جنوبا إلى السودان لإكمال الرحلة إلى قلب القارة السمراء. ولكن بدلا من المرور خلال مصر في عدة أيام رفضت السلطات خروجهم إلى السودان مع السيارة واضطروا للبقاء أسبوعين في منزل احد القساوسة استضافهم في منزله. بعد حل المشكلة من خلال السفارة الألمانية أكملوا طريقهم وتعطلت بهم السيارة في أوغاندا لكن شركة فولكس فاجن أصلحتها مجانا إعجابا بالمغامرة. وفي زيمبابوي نفذت الأموال التي بحوذتهم فأضطروا لبيع السيارة وأكملو الرحلة حتى كيب تاون بالأوتوستوب. وهناك استقروا لمدة سنتين حتى إدخروا مبلغا كافيا من المال لشراء سيارة أخرى وعادوا بها من نفس الطريق. أعجبتني القصة جدا وأدركت أن عادة الحكومة المصرية في صناعة التعاسة لمن تطوله أيديها هي عادة لها جذور تاريخية وليست أمرا مستحدثا. إنتهى وقت الاستراحة فتبادلنا التحيات ومن تأثري بالقصة وعدتهم بإرسال هدية تذكارية لهم بعد أن ترك لي عنوانه.

وهو الوعد الذي لم أنفذه أبدا. في البداية وجدت أن تكلفة إرسال الهدية من رومانيا حيث كنت أقيم حينها تفوق تكلفة هدية معقولة. فقررت إرسالها عندما أسافر في زيارة تالية. وبالرغم من تعدد الزيارات بعدها مازلت لم أرسلها. فمرة أنسى شراء هدية ومرة أنسى العنوان في رومانيا ومرة أشتري هدية ثم لا تعجبني ولا أعتبرها تليق بي ومرة أشتري هدية ثم تعجبني أكثر من أن أرسلها لغرباء فأعطيها لأحد أكثر أولوية. ومرت الأعوام وبقى هذا الوعد كذكرى مزعجة تؤنبني من حين لآخر على عدم الالتزام بما وعدت به.

هذه المرة لن أضيع الفرصة. فبعد الانتقال إلى مصر وقلة السفر لا أعرف متى تتاح لي مجددا. قبل الوصول إلى هامبورج توقفت عدة أيام في رومانيا وهناك إشتريت طبقا من الفخار مصنوع يدويا في قرية تشتهر بهذه الحرفة وحملته معي إلى هنا. كإجراء أضافي للأمان قمت بتصوير الورقة المدون عليها العنوان واحتفظت بالصورة على الهاتف وبالورقة في محفظتي. اليوم غلفته بالورق لحمايته من الكسر وأرفقت معه رسالة بالقصة وبعض الصور من الرحلة لتذكيرهم بالواقعة.

حكيت لصديقي توماس القصة وسألته إذا كان بإمكانه توصيلي لمكتب البريد في طريقه فإقترح أن نذهب إليهم مباشرة بالهدية. ستكون مفاجأة لطيفة وهذا هو أسلوبه في تنفيذ الأمور. كان العنوان يبعد عن المدينة عشرة كيلومترات ولكن لحسن الحظ بالقرب من منزل والدته فيمكننا بعد التوصيل أن نمر عليها ليعرفني بها ونتناول معها القهوة.إنطلقنا في مهمتنا بعد قضاء عدة مشاوير. أثناء الطريق تأملت السماء الملبدة بالغيوم وحاولت توقع كيف سيسير اللقاء. هل سيتذكرونني. هل ما زالوا أصلا في نفس البيت. لم استطع أن امنع نفسي من التفكير في القصص الملحمية والأساطير الإغريقية. حين يعود البطل بعد زمن طويل لتصفية الحسابات وإعادة الأمور إلى نصابها. تخيلت ترحيبهم ودعوتهم لنا لتناول مشروب ساخن. قد يحالفنا الحظ وتكون زوحته تخبز صنف من الحلوى تصلنا رائحته من خارج المنزل. منزل ريفي دافيء تحيطه الخضرة من كل جانب يحمينا من طقس الشتاء الألماني.

أفاقني من أحلام اليقظة صوت نسائي من الجي بي إس يعلن الوصول لوجهتنا. تركنا السيارة ومشينا في اتجاه العنوان تحت قطرات مطر بدأت في التساقط على استحياء. مجموعة من المنازل المتلاصقة بسيطة التصميم ولونها أبيض. كان رقم 20 هو المنزل الثاني. وجدت الاسم على الباب مطابق لقصاصة الورق. على الأقل هذا الجزء صحيح. أعطاني هذا ثقة في نجاح المهمة وضربت الجرس. لم نسمع أي شيء. بعد لحظات أضاء نور في الداخل ولكن لم تصاحبه أي حركة. أيكون الجرس معطلا. ضربت الجرس ثانية فإنطفأ النور بدون أي صوت. قديكون ضوء أوتوماتيكيا لخداع اللصوص. هل رأونا من الداخل وقلقين من الفتح لوجه عربي غير مألوف. بدأت قطرات المطر تزيد قليلا فقررنا ترك الهدية معلقة في مقبض الباب. واستدرنا للرحيل حين قال توماس فجأة. لقد رأيت أحدا يتحرك. أضرب الجرس وأطرق على الباب لعلهم لم يسمعوا. وفعلا طرقت على الباب وبعد لحظات فتحت الزوجة. كانت تبدو مختلفة عن الصورة وعن ذاكرتي خاصة وقد غيرت لون شعرها من برتقالي غريب إلى أصفر أفضل كثيرا. ألقت علينا التحية ووجها تكسوه نظرة استغراب شديد. حكى لها توماس بمنتهى الحماس عن رحلة الدراجات التي قابلوني فيها منذ سنين وعن رومانيا والعنوان والهدية. هزت رأسها ببطأ وقالت أنهم كانوا في رومانيا في الخريف الماضي لكن بقى عليها نفس نظرة الاستغراب. أخذت الهدية منها مرة أخرى وأخرجت منها الرسالة لأريها صور الرحلة وأنعش ذاكرتها. تأكدت حينها من مصداقية القصة وإن كانت لم تتخلص من نظرة الاستغراب أو ربما لم يعجبها أن يذكرها أحد بلون شعرها السابق. قالت لنا ثانية واحدة وذهبت إلى الداخل وندهت على زوجها. الذي جاء مستغربا هو الأخر وشرحنا له مجددا تحت المطر القصة من البداية وأريته الصورة. فنظر بعمق إلى الفراغ ثم رفع سبابته وهزها في علامة على التذكر وقال أنه تذكر الأن وقال مجددا أنهم زاروا رومانيا في الخريف الماضي وكانت رحلة لطيفة جدا. وفي هذه اللحظة إنتفض توماس وقال لي أحمد. لقد تأخرنا جدا ويجب أن نرحل حالا حالا. حيينا الزوجين وهرولنا إلى السيارة وفي داخلها استدار تجاهي وقال بلهجة جادة. أعتقد أن أصدقائك ليسو معتادين على استقبال ضيوف. فالسيدة تركتنا على الباب ولم تدعنا حتى بعد أن تأكدت من شخصيتنا وزوجها نفس الشيء. أما أن يحدث هذا والدنيا تمطر فهو شيء لا أفهمه. لا أفهمه أبدا. قلت له لديك حق. على كل حال لقد جئنا اليوم من أجل راحة بالي وليس من أجلهم. تبا لهم هؤلاء الحمقى. هيا نذهب لوالدتك. في الأغلب لن تتركنا في المطر وستدعونا إلى الداخل لتناول القهوة.

هامبورج 2017

أترك تعليق

تعليقات

1 Comment on "قصة: العنوان مازال في جيبي"

  1. زهية | 2019-02-23 at 16:44 |

    والله يااستاذ ممدوح..كتابتك تعجبني..وعرضك للكتب عبر الفيديو جميل…واستغرب من عدد المشاهدات ..مالذي يحدث..هل افتقر العالم العربي من حب المعرفة ومن محبيها…الهذا الحد وصلنا لحالة من الانهاك…اكتشفت مدونتك حديثا ..وكأني امتشفت كنز..وانا سعيدة به…وفقك الله.

Leave a comment

Your email address will not be published.


*


This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.